کد مطلب:370281 سه شنبه 23 مرداد 1397 آمار بازدید:982

الفصل الخامس أدب الخوارج
 













الصفحة 244












الصفحة 245


شعراء «الخوارج»:


لقد عرف من «الخوارج» خطباء وشعراء، ولا سیما فی الصدر الأول، حیث إن أكثر قوادهم كانوا من البدو، من جند الكوفة والبصرة(1)، وكان الإنسان البدوی یمتاز بالفصاحة فی منطقه، ویمتلك قدرات تعبیریة یمتاز بها عن غیره من سائر الناس.


الأرجاز فی شعر «الخوارج»:


وحیث إنهم قد اتخذوا طریق العنف، والحرب وسیلة لتحقیق أهدافهم السیاسیة، فإن الرجز فی الحرب یصبح ضرورة لهم، لأجل تشجیع الجبان، ومكابدة الحرب والطعان. ولأجل ذلك فإن غالب ما قالوه من الشعر قد جاء فی وصف الحرب، وفی التشجیع على خوض غمارها، مادام أن حیاتهم كانت تتخذ الطابع الحربی فی غالب مقاطعها، وتمیز شعرهم بكثرة الأرجاز فیه(2).


وهذا هو الطابع الذی یطبع أدب أهل البادیة بشكل عام..


ولاسیما حین یواجه فرسانهم الأقران فی ساحات الحرب والنزال.


____________



(1) دائرة المعارف الإسلامیة ج8 ص476 وراجع: الخوارج فی العصر الأموی ص296.


(2) الخوارج فی العصر الأموی ص292.













الصفحة 246


شعراؤهم من العرب والموالی:


ورغم كثرة من نطق بالشعر فیهم، وكونهم من القبائل والفرق المختلفة؛ فإننا نلاحظ: أنهم لا یهاجمون الفرق الخارجیة الأخرى، ولا كانوا یذكرون عقائد وخصائص فرقهم هم أنفسهم. بل إن شعرهم یكاد یكون لوناً واحداً.


وقد كان الذین قالوا شعراً من «الخوارج» ینتمون إلى قبائل عربیة مختلفة باستثناء قریش(1).


وذكروا: أن لهم شعراء من الموالی أیضاً، مثل حبیب بن خدرة، الذی كان من موالی بنی هلال(2).


وعمرو بن الحسن الإباضی، وهو من موالی الكوفة(3).


وعمرو بن الحصین، أحد موالی بنی تمیم(4).


وزیاد بن الأعسم، الذی قیل: إنه من بنی عبد القیس، أو من موالیهم(5).


ولكننا بدورنا: لا نجد لدى هؤلاء ما یستحق أن یجعل أیاً منهم جدیراً بأن یصنف أو یكون فی عداد الشعراء، فإن وجود بعض المقطوعات لهم هو أمر عادی جداً فی المجتمع العربی، الذی یكثر فیه أمثال هؤلاء.


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص250.


(2) البیان والتبیین ج3 ص261.


(3) معجم الشعراء للمرزبانی ص229.


(4) الأغانی ج20 ص102.


(5) عن أنساب الأشراف ج7 ص118.













الصفحة 247


نعم یمكن أن یعد عمران بن حطان من شعرائهم، رغم تجاهل الأدباء له، ولعله لأنهم لم یروا فی شعره ما یستحق أن یجعله یصنف فی عداد الشعراء أیضاً.


كیف یرى المؤلفون أدب «الخوارج»:


وقد أفاض الكتاب والمؤلفون فی تسطیر الآراء التی یقترب بعضها من الحقیقة، بینما یهاجر بعضها عنها مغاضباً لها، لیستقر فی أعماق الخیال والأوهام، غیر آسف على شیء؛ لأنه آثر أن یعتصم بصوامع المجهول، وینعم بزیف الغی والجهالة إلى غیر رجعة..


ونحن نذكر هنا: بعضاً من ذلك، مما ظهر فیه الخلط بین الحق والباطل، والمزج بین الواقع والخیال، فنقول:


1ـ قد وصف البعض شعر «الخوارج» بقوله: «.. إنه شعر ثورة جامحة. محوره الأنا، ونحن. وإطاره المذهب الخارجی. وغایته فرادیس السماء»(1).


ونحن لا نوافقه على قوله: «شعر ثورة جامحة» ونقول: بل هو شعر البدوی، الذی یعتمد على سیفه ورمحه لنیل ما یطمح إلیه، حقاً كان أو باطلاً. ولا یعتمد على المنطق، والبرهان.. ولا ینطلق من دواعی الضمیر والوجدان، ولا تقیده الروادع الدینیة والإیمانیة.. فلا یمكن أن نعتبر هذا السلوك الطبعی المتأصل فی الأعراب الغارقین فی بحار الجهل والهوى.. أنه ثورة، أو أنه إحساس وجدانی نبیل.


ونرفض أیضاً: أن تكون غایة ذلك الشعر هو فرادیس السماء.. فإن


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص292.













الصفحة 248


الله لم یطلع هذا القائل على غیبه، لیقرأ فی قلوب أولئك الشعراء غایاتهم ونوایاهم..


وإذا كان الشعر مبنیاً على التبجح، والادعاء، والمبالغة..


ثم إذا كان «الخوارج» ـ كما ظهر من فصول هذا الكتاب بالنصوص والأرقام ـ طلاب دنیا، ورواد حكم، یبحثون عن ذلك بكل خف، ویسعون له بكل حافر وظلف.


وإذا كانوا أیضاً لا یتورعون عن ارتكاب أی شیء فی سبیل ذلك، حتى الكذب على رسول الله (صلوات الله وسلامه علیه) وآله، فكانوا إذا أحبوا شیئاً صیروه حدیثاً..


فهل یمكن بعد هذا استكشاف نوایاهم، وغایاتهم من شعرهم الذی ینشدونه فی مواقع المواجهة؟! حیث یهیمن الغرور، وتستیقظ العنجهیات.


أضف إلى ذلك: أن أهم ما یجذب الناس إلى «الخوارج» هو إدعاؤهم أنهم ملتزمون لخط الشریعة، ومتصلبون فی الدین. فلماذا لا یستخدمون هذا الأمر فی إعلامهم من أجل ذلك أیضاً.. بهدف إثارة الحماس لدى السذج والبسطاء من الذین لم یطلعوا على حقیقة نوایا قادتهم وزعمائهم؟!


2ـ ثم إن ثمة نصاً آخراً، یقول: «یمكن القول: إن الشعر عند شعراء الفرق الخارجیة ـ بشكل عام ـ كان إما تسجیلاً لأعمال حربیة، أو رثاء لقتلاهم ـ ترغیباً أو ترهیباً»(1).


____________



(1) المصدر السابق ص252.













الصفحة 249


«ولعل الظاهرة العامة الأخرى، التی تطغى على شعر «الخوارج»: أنه جاء فی أكثره یخاطب المشاعر، والوجدان، دون أن یعمد إلى مخاطبة العقل والمنطق؛ لإعطاء الحجة المقبولة، والبرهان العقلی لما ینادون به، فكان عملهم أشبه ما یكون بعمل الصحافیین، الذین یعمدون إلى إلهاب عواطف الناس، واستثارة حماس جماهیر العوام، بالكلمات المؤثرة، والشعارات المثیرة.


ولا ننسى مدى فعالیة هذا الأسلوب على جماعة «الخوارج» الذین كانوا بأكثریتهم الساحقة، من الأعراب، والقراء المتدینین»(1).


وهذا الكلام: وإن كان فی أكثره معقولاً ومقبولاً، لكن لنا تعقیب على العبارة الأخیرة، فإن تدینهم، لم یكن قائماً على أسس فكریة، وقناعات حقیقیة، وإنما هی ظواهر ومظاهر ألفوها، ووجدوا فیها سبیلاً إلى الحصول على بعض ما عجزوا عن الحصول علیه بالأسالیب الأخرى؛ وقد أخبر النبی الأعظم (صلى الله علیه وآله): أنهم یقرأون القرآن، ولا یجاوز تراقیهم. وأنهم یمرقون من الدین كما یمرق السهم من الرمیة. وقد دلت ممارساتهم على ما نقول فلا حاجة إلى الإعادة.


مبالغات لا مبرر لها:


ثم إن بعض الكتاب: قد زعم.. أن للخوارج أدباً له طابع ممیز، وخصائص معینة، تنسجم مع واقع الحیاة، ومع المفاهیم التی كانوا یعیشونها، فقد كانت لدیهم نفوس بدویة، تملك سرعة الخاطر، والقدرة على البیان، بأوجز عبارة وأقوى لفظ، إلى جانب ذلك تحمس،


____________



(1) المصدر السابق ص286.













الصفحة 250


وصراحة، وعاطفة، ولیس فی أدبهم أثر للخمر والمجون، وإنما فیه القوة والصلابة، والجمال، والقتال، وهو أدب لسانی، لا أدب مكتوب، بل هو خطب وشعر، وبدیهة واحتجاج(1).


وقالوا أیضاً: «هذه الصفات، أعنی الشدة فی الدین والإخلاص للعقیدة، والشجاعة النادرة، یضاف إلیها العربیة الخالصة هی التی جعلت للخوارج أدباً خاصاً یمتاز بالقوة، شعراً ونثراً، تخیّر للفظ، وقوة فی السبك، وفصاحة فی الأسلوب»(2).


ونقول: إن هذا الوصف المتنوع لشعرهم مفرط فی المبالغة، ولا یعبر عن الحقیقة.. وهو ظاهر الخلل، بیِّن الزیف والخطل.


فلاحظ ما یلی:


1ـ قوله: إن لأدب «الخوارج» طابعاً ممیزاً، وخصائص معینة.. لیس بذی قیمة، لأن «الخوارج» إذا كانوا أعراباً جفاةً، یطغى علیهم الجهل، والهوى، والبداوة، فإن شعرهم سوف یكون حتماً شعر الأعراب الجفاة، الذی یفقد الطراوة، ولا یملك صوراً خلابة، ولا خیالاً رائعاً ومثیراً.


2ـ إننا لم نجد فی شعر «الخوارج» ذلك الجمال الذی ادعاه، بل هو شعر تقریری یقتصر على ألفاظ عادیة ومتداولة. ولا یقدم أیة صورة شاعریة، تحمل شیئاً من الإبداع والجمال اللافت..


3ـ لا نجد للخوارج احتجاجاً قویاً ولا مؤثراً، ولاسیما فی مقابل أمیر المؤمنین (علیه السلام) وأصحابه الأخیار والأبرار. بل كانت احتجاجات غیرهم هی التی تؤثر فیهم، فیتراجعون عن مواقفهم بالمئات والألوف..


____________



(1) راجع: ضحى الإسلام ج3 ص344 و345.


(2) فجر الإسلام ص264.













الصفحة 251


وأما حین یواجهون الأمویین فإنهم لا یحتاجون امتلاك قدرة احتجاجیة خاصة، بل یكفی ذكر وسرد مثالب بنی أمیة، التی یمكن أن یقوم بها أضعف الناس فیستطیل بها على أبرع الناس فی الاحتجاج..


4ـ وأما الخطب.. فإن سرد مخازی بنی أمیة یكفی أضعف الناس عن أی خطاب، لكننا نجد فی المقابل أن أصحاب أمیر المؤمنین (علیه السلام) كانوا هم مضرب المثل فی ذلك، حیث یضرب المثل بصعصعة بن صوحان فی ذلك، فقیل: «أخطب من صعصعة بن صوحان إذا تكلمت الخوارج».


أما أمیر المؤمنین (علیه السلام) فقد ردهم بكلامه الحلو فی غیر موطن حسبما اعترفوا به هم أنفسهم كما تقدم.


5ـ أما بعض العبارات المتمیزة التی تنسب لبعض زعمائهم.. فیجدها الباحث المتتبع فی ثنایا كلام أمیر المؤمنین (علیه السلام)، فهی إما مسروقة منه (علیه السلام)، منحولة لغیره.. وإما أن «الخوارج» أنفسهم كانوا یحفظونها عنه، وقد استفادوا منها فی خطبهم، فأعطتها قوةً ورونقاً..


وما أكثر الغارات على كلمات أمیر المؤمنین (علیه السلام)، وخطبه، وفضائله وكراماته كما لا یخفى على الباحث الأدیب، والمتتبع اللبیب..


6ـ وأما بالنسبة للصراحة، فإن من بیده السیف قادر على أن یتكلم بما یشاء.. ولكن حین یقع السیف من یده، فإنك تجده یستعمل التقیة فی القول وفی الفعل بإغراق شدید. وبإمعان بالغ، كما كان الحال بالنسبة للخوارج.


7ـ وأما الإخلاص للعقیدة، فقد ذكرنا الكثیر مما یدل على أن أمر الدنیا كان هو الأهم عندهم، والأولى بنظرهم.












الصفحة 252


8ـ وعن شجاعتهم النادرة ذكرنا أیضاً، ما یكذب الشائعات التی أعطتهم صورة الشجعان الأتقیاء، والبررة الأوفیاء..


9ـ ویضحك الثكلى حدیثه عن: «تخیر للفظ، وقوة فی السبك». فإننا لم نجد فی شعرهم إلا عفویة البدوی الجاهل، الذی یبتدر الكلام بما تیسر له من ألفاظٍ یلتقطها مما یجده فی طریقه، وهو على عجلة من أمره..


وحسبنا ما ذكرناه: فإننا لا نرید أن نفسح المجال للذین یحاولون أن یتبرعوا بأوسمة الاتهامات الجاهزة، لیخلعوا علینا حللاً منها موشّاةً بالتعصب لتعصب المذهبی تارة، أو الاتهام بالانطلاق من أفكار عنصریة أخرى، أو ما إلى ذلك..


دعاوى أخرى حول أدب «الخوارج»!!


یقول البعض: «إذا كان شعر الخوارج ونثرهم، یمثلان أصدق تمثیل حیاتهم الحربیة، وأحاسیسهم الوجدانیة، وعواطفهم الدینیة، وآمالهم العریضة؛ فإن هذه الآثار الأدبیة قد فشلت فشلاً تاماً فی إعطاء صورة واضحة للفكر الخارجی، أو للعقائد الخارجیة السیاسیة منها والدینیة، هذا إذا استثنینا ما یستخلص من مزاعمهم: نحن الإسلام، والإسلام نحن».


ولعل هذه الظاهرة تخالف ما عهدناه عند معاصریهم من الفرق الإسلامیة الأخرى؛ فإن الشعر الشیعی، یسجل لنا بوضوح مبادئ الشیعة، وعقائدهم، على اختلاف نظریاتهم.


وكذلك الحال عند المرجئة: «فإن لثابت قطنة قصیدة أودعها مختلف آراء هذه الفرقة وعقائدها..»(1) انتهى.


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص253/254.













الصفحة 253


ونقول: من أین للخوارج الفكر العقائدی والسیاسی، الذی یمكن التعبیر عنه فی الأدب والشعر، وهم إنما كانوا فی بادئ أمرهم أصحاب أطماع، وسفاحین، ثم انتهى أمرهم إلى أن أصبحوا لصوصاً سلابین.


وإن كان لدى بعضهم حب للوصول إلى الحق، فإن جهود هؤلاء لم تنته إلى نتیجة ظاهرة، فإنهم بعد أن اتبعوا غیر سبیل الصالحین، بتخلیهم عن إمامهم، ثم محاربتهم له، واصرارهم على البراءة منه، وتكفیره، قد تاهوا فی خضم الشبهات، ثم وقعوا فی فخ أصحاب الطموح والأطماع، حركتهم ـ كما بدأت ـ حركة عدوانیة طامعة فی الحصول على شیء من حطام الدنیا..


وقد بقوا غارقین فی مشاكلهم مع الآخرین، یهیمن علیهم الجهل، والأعرابیة، ویسیرهم الهوى؛ فلم یكن لدیهم علماء یهذبون لهم أفكارهم، ویحددون لهم مذاهبهم، ویهتمون بإعطائها صفة معقولة ومنسجمة، إلا بعد أن مضت المئات من السنین، وقد كان ذلك فی مستویات بدائیة ضحلة، وغیر ناضجة..


فمحاولة مقایستهم بالشیعة وحتى بالمرجئة تصبح محاولة فاشلة، لیس لها ما یبررها.


ویقول البعض: «.. ولعل ما یلفت النظر بشأن شعراء الفرق الخارجیة، أن شعر كل جماعة منهم جاء متناسباً مع حجم الأعمال العسكریة، التی قامت بها كل منها؛ فالأزارقة كثر شعرهم الحربی؛ تسجیلاً لبطولاتهم، وانتصاراتهم الحربیة؛ لان وجودهم كان سلسلة متصلة من المعارك المتواصلة.


والصفریة قل شعرهم الحربی، لأن اكثرهم مال إلى القعود.












الصفحة 254


ولكن یبدو أن الرواة قد حالوا بیننا وبین ما قیل فی تصویر انتصارات شبیب الحروری الأسطوریة.


أما النجدیة: فإن الخلافات المبكرة فی صفوف زعمائهم حالت بینهم وبین الأعمال الحربیة العظیمة المستمرة، فقل شعرهم بذلك.


والإباضیة: لم نسمع لهم شعراً إلا بعد أن قاموا بمحاولاتهم الجدّیة للاستیلاء على بلاد الحجاز، والیمن، وما دونهما»(1).


خلاصة الرأی فی أدب «الخوارج»:


ونقول:


إن ما یقال عن وجود حیاة أدبیة ذات قیمة لدى «الخوارج» لا یمكن قبوله على إطلاقه، فإن غایة ما یمكن أن یقال هنا هو: إنه قد ظهرت منهم فی حروبهم أو فی غیرها بعض المقطوعات، النثریة والشعریة، التی جاء أكثرها حماسیاً، ولكن لم یكن فیها الكثیر من الجمال والإبداع، بحیث یهتم بتدوینها هواة الشعر والأدب، وجامعوه فی كتبهم ومصادرهم.


ولأجل ذلك نلاحظ: أن أبا الفرج والمسعودی لم یوردا إلا النزر الیسیر من أخبارهم الأدبیة، كما أن ابن قتیبة لم یأت على ذكرهم فی كتابة الشعر والشعراء، إلا بشأن سرقات الطرماح من الشعراء الآخرین، بینما ابن سلام لا یرى احداً منهم یستحق التصنیف فی طبقاته(2).


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص252.


(2) الخوارج فی العصر الأموی ص253/254.













الصفحة 255


وإذا كانت الكتب التاریخیة، وهی تسجل لنا تاریخ «الخوارج» قد أوردت ما أنشأوه فی مواقفهم المختلفة، فإن ذلك قد جاء رعایة لأمانة النقل، وحفاظاً على تناسق الأحداث.. لا لأنها كانت تمتاز بجمال لافت، استحقت لأجله التسجیل.


وقد حاول البعض: إرجاع عدم وجود روایة لمقطوعات أدبیة بكثرة لهم، فی ما بأیدینا من كتب الأدب وغیرها إلى تعمد الرواة، والمؤرخین تجاهل ذلك. وهو الأمر الذی نشأ عنه ضیاع نتاجهم الأدبی، فلم یصلنا إلا القلیل من شعرهم(1).


وقد رأوا: أن هذا التعمد یرجع ـ كلاً أو بعضاً ـ إلى الأسباب التالیة:


1ـ إن اللعنات التی انصبت على «الخوارج»، عامة قد انعكست على آثارهم الأدبیة، فاضطهدهم الرواة والمؤرخون، وأهملوا إنتاجهم وتركوه نهباً للضیاع(2).


2ـ إن بعض المؤرخین قد یكون قد أهمل شعر «الخوارج» كرهاً لهم.


3ـ أو تجنباً لإثارة خصوم «الخوارج» علیهم.


4ـ إن «الخوارج» لم یتخذوا الشعر حرفة للتكسب، فلم یحرصوا على روایته وإثباته.


5ـ إن سیطرة القرآن ووجدانهم علیهم قد حال بینهم وبین الاهتمام الزائد بفنّ الشعر.


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص253/254.


(2) القاضی النعمان فی كتابه: الفرق الإسلامیة فی الشعر الأموی ص406 نقلنا ذلك عنه بواسطة كتاب: الخوارج فی العصر الأموی ص253/254..













الصفحة 256


6ـ إن موت العدید من الشعراء فی الحروب المتواصلة كان سبباً لضیاع أكثر شعرهم، لأن أبرز شعرائهم كانوا هم فرسانهم الذین قتلوا(1).


ونقول:


إن نفس ذلك الشخص الذی ذكر ما تقدم قد أجاب على النقاط الثلاث الأولى. فلا حاجة إلى الحدیث عتها.


وأما بقیة النقاط فنحن نشیر فیما یرتبط بها إلى المناقشات التالیة:


1ـ «إن آخرین منهم [أی من الرواة والمؤرخین] أبدوا اهتماماً زائداً بشعرهم. وأخبارهم أیضاً؛ فلم یتحرجوا من نقل أخبار بطولاتهم الحربیة، وشجاعتهم النادرة؛ فهذا ما نلحظه فی كامل المبرد، وتاریخ الطبری، وأنساب البلاذری، وغیرها من المصادر القدیمة.


2ـ یضاف إلى ذلك: أن جمع الأدب وتسجیله، قد تم فی فترة زمنیة لم یكن فیها للخوارج شأن خطیر، ولا شوكة ظاهرة. وفی وقتلم یجد فیه بعض المؤرخین حرجاً فی إثبات روایات أبی عبیدة، معمر بن المثنى، الخارجی، الیهودی الأصل(2).


فلا یصح بعد هذا أن یعمم الحكم؛ فیقال: إن أخبار «الخوارج» قد طمست، وإن أشعارهم قد دفنت.


3ـ فالرواة الذین نقلوا إلینا أعنف افتراء على علی بن أبی طالب (علیه السلام)، فی مدیح عمران بن حطان لابن ملجم، لا یتحرجون فی نقل ما هو أخف حدّةً، وأقل عنفاً»(3).


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص254 فما بعدها.


(2) أحال هذا القائل هنا على كتاب: وفیات الأعیان ج4 ص227.


(3) الخوارج فی العصر الأموی ص254.













الصفحة 257


4ـ وأما دعوى: أنهم لم یحرصوا على إثبات شعرهم، لكونهم لم یتخذوه للتكسب.


فهی غیر وجیهة؛ إذ قد رأینا أن المؤرخین قد أثبتوا جمیع أنواع الشعر، ورووه، بل إن روایة الشعر الذی یقال: إنه لغیر التكسب أدعى، وأولى بالإثبات، سواء بالنسبة لصاحب الشعر، أو بالنسبة لغیره ممن تصدى من الناس للروایة وللكتابة.


5ـ وحول سیطرة القرآن على وجدان «الخوارج»، حتى صرفهم ذلك عن الاهتمام الزائد بفن الشعر، نقول: إن هذا الكلام یستبطن إنكار أن یكون للخوارج أدب وشعر من الأساس..


أضف إلى ذلك: أنها دعوى یكذبها ما ثبت عن رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی وصف «الخوارج»، من أنهم یقرؤون القرآن، ولا یجاوز تراقیهم(1).


فإن معنى ذلك هو أنه لا سیطرة للقرآن على وجدانهم، فلا تأثیر له إذن على موقفهم من الأدب والشعر، لا سلباً ولا إیجاباً..


6ـ ثم إن ما ذكر أخیراً من أن شعراءهم إنما كانوا فرسانهم، وقد قتلوا فی الحروب؛ فذلك هو سبب عدم نقل شعرهم إلینا..


لا یصح أیضاً، إذ أن الشعر إنما یرویه الآخرون عنهم، ممن سمعه منهم. وقد عاش هؤلاء الفرسان: الشعراء (حسب الفرض) إلى حین قتلوا ـ عاشوا ـ بین المئات والألوف من الناس، فلماذا یختفی شعرهم فقط، ولا یختفی شعر الكثیرین من الفرسان، الذین أكلتهم الحروب، وقد خلدها عنهم الرواة والمؤرخون.


____________



(1) تقدمت مصادر هذه الروایة فی أوائل الكتاب، فراجع.













الصفحة 258


إلا أن یكون المقصود بالشعر الذی لم ینقل هو تلك الأرجاز التی تأتی على البدیهة فی ساحة الحرب والنزال، وهی جهد ضئیل، لا یكاد یصل إلى درجة أن یصبح حیاة أدبیة لطائفة واسعة الانتشار فی طول البلاد الإسلامیة وعرضها.


صعصعة.. و«الخوارج»!!


ولابد من التذكیر هنا بحقیقة أن كل خطب «الخوارج»، وكل أراجیزهم الحماسیة، لم تستطع أن تصمد أمام المنطق القوی، والبلیغ، والحازم الذی كان یواجههم به اصحاب أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام)، ولاسیما صعصعة بن صوحان العبدی، الرجل الفذ، الذی جمع إلى بلاغة المنطق، صواب القول، وسطوع الحجة، فبهرهم بذلك، وأعجزهم عن مجاراته، حتى أصبحت مواقفه معهم مثلاً سائراً فی الناس.


یقول الجاحظ: «إن أشیم بن شقیق، بن ثور، قال لعبد الله بن زیاد، بن ظبیان: ما كنت تقول لربك ـ وقد حملت رأس مصعب بن الزبیر إلى عبد الملك بن مروان؟!


قال: أسكت، فأنت یوم القیامة أخطب من صعصعة بن صوحان، إذا تكلمت الخوارج»(1).


وقد بلغ من تأثیر خطب صعصعة: أنه وعظهم مرةً، فرجع منهم خمس مئة، فدخلوا فی جملة علی وجماعته(2).


____________












الصفحة 259


بل یذكر طه حسین: أن صعصعة وعظهم؛ فرجع منهم ألفان(1) ولعل ذلك كان فی مناسبة أخرى له معهم.


وقال البلاذری: «.. فبعث إلیهم علیٌّ، ابن عباس، وصعصعة، فوعظهم صعصعة وحاجهم ابن عباس، فرجع منهم ألفان»(2).


من خطب ومواقف صعصعة مع «الخوارج»:


وقد ذكر المفید: ((رحمه الله)) أحد مواقف صعصعة مع «الخوارج»، وهو یدل على ثبات قدم صعصعة فی مجال الخطابة والوعظ، وعلى قوة عارضته، ثم على ثباته فی عقیدته، وثاقب فكره، ووعیه.


یقول النص المحكی عنه: لما بعث علی بن أبی طالب (صلوات الله وسلامه علیه) صعصعة إلى «الخوارج» قالوا له: أرأیت لو كان علی معنا فی موضعنا، أتكون معه؟!


قال: نعم.


قالوا: فأنت إذاً مقلد علیاً دینك!! إرجع فلا دین لك.


فقال لهم صعصعة: ألا أقلد من قلد الله فأحسن التقلید؛ فاضطلع بأمر الله صدیقاً لم یزل؟! أو لم یكن رسول الله (صلى الله علیه وآله) إذا اشتدت الحرب قدمه فی لهواتها؛ فیطأ صماخها بأخمصه، ویخمد لهبها بحدّه، مكدوداً فی ذات الله، عنه یعبر رسول الله (صلى الله علیه وآله) والمسلمون؛ فأنى تصرفون؟ وأین تذهبون؟ وإلى من ترغبون؟ وعمّن


____________



(1) البیان والتبیین ج1 ص326/327 وذكر المعتزلی هذا النص فی شرحه للنهج ج3 ص398، لكنه لم یذكر الخوارج، ونص عبارته هكذا: [إن تركت أحتج، كنت أخطب من صعصعة بن صوحان].


(2) أنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص354.















الصفحة 260


تصدفون؟ عن القمر الباهر؟ والسراج الزاهر، وصراط الله المستقیم، وحسان الأعد(1) المقیم. قاتلكم الله أنى تؤفكون؟ أفی الصدیق الأكبر، والغرض الأقصى ترمون؟ طاشت عقولكم، وغارت حلومكم، وشاهت وجوهكم. لقد علوتم القلة من الجبل، وباعدتم العلة من النهل.


أتستهدفون أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه)، ووصی رسول الله (صلى الله علیه وآله)؟ لقد سوّلت لكم أنفسكم خسراناً مبیناً. فبعداً وسحقاً للكفرة الظالمین، عدل بكم عن القصد الشیطان، وعمى لكم عن واضح المحجة الحرمان.


فقال له عبد الله بن وهب الراسبی: نطقت یا بن صوحان بشقشقة بعیر، وهدرت فأطنبت فی الهدیر. أبلغ صاحبك أنا مقاتلوه على حكم الله والتنزیل.


فقال عبد الله بن وهب أبیاتاً. قال العكلی الحرماوی: ولا أدری أهی له أم لغیره:


 

















نقاتلكم كی تلزموا الحق وحده ونضربكم حتى یكون لنا الحكم
فإن تبتغوا حكم الإله نكن لكم إذا ما اصطلحنا الحق والأمن والسلم
وإلا.. فإن المشرفیة محذم بأیدی رجال فیهم الدین والعلم



فقال صعصعة: كأنی انظر إلیك یا أخا راسب مترملاً بدمائك، یحجل الطیر بأشلائك، لا تجاب لكم داعیة، ولا تسمع لكم واعیة، یستحل ذلك منكم إمام هدى. قال الراسبی:


 









سیعلم اللیث إذا التقینا دور الرحى علیه أو علینا



____________



(1) فی بعض النسخ: وسبیل الله المقیم.













الصفحة 261


أبلغ صاحبك: أنا غیر راجعین عنه، أو یقر لله بكفره، أو یخرج عن ذنبه، فإن الله قابل التوب، شدید العقاب، وغافر الذنب؛ فإذا فعل ذلك بذلنا المهج.


فقال صعصعة: عند الصباح یحمد القوم السُّرى.


ثم رجع إلى علی (صلوات الله علیه)، فأخبره بما جرى بینه وبینهم إلخ(1).


فالراسبی لم یجب صعصعة إلا بالشتم والإهانة، ولم یكن لدیه حجة، ولا دلیل منطقی یبرر به ما یقدم علیه.. بل هو حتى لم یقابل الموعظة، بالموعظة ولا النصیحة بالنصیحة، بل أعلن عن أطماعه الدنیویة بالوصول إلى الحكم، وأن یكون لهم دون غیرهم. ونجد صعصعة یقدم صوراً رائعة من البلاغة، والوعی، والعقلانیة، والغیرة على مصلحة الأمة، والعمق العقیدی القائم على أساس قوی، ومتین وعلى الرؤیة الواضحة.


وفی نص آخر: أنه لما فارقت «الخوارج» علیاً (علیه السلام)، ونزلوا حروراء مع ابن الكواء بعث علی (علیه السلام) إلیهم ابن عباس، وصعصعة.


فقال لهم صعصعة: إنما یكون القضیة من قابل؛ فكونوا على ما أنتم حتى تنظروا القضیة كیف تكون.


قالوا: إنما نخاف أن یحدث أبا [كذا] موسى شیئاً یكون كفراً.


قال: فلا تكفروا العام مخافة عام قابل.


فلما قام صعصعة، قال لهم ابن الكواء: «أی قوم، ألستم تعلمون أنی دعوتكم إلى هذا الأمر؟


قالوا: بلى.


____________



(1) الإختصاص ص121/122.













الصفحة 262


قال: فإن هذا ناصح فأطیعوه»(1).


هفوة ظاهرة:


ولا حاجة بنا إلى التعریف بصعصعة، ووفائه الظاهر لامیر المؤمنین (علیه السلام) إلى أن مات، ودفاعه عن قضیته (علیه السلام) فی قبال «الخوارج» وغیرهم بكل ما أوتی من قوة وحول. فإن ذلك من بدیهیات التاریخ التی لا یرقى إلیها أدنى شك أو شبهة.


ولكننا: ـ مع ذلك ـ نجد الجوزجانی یعد صعصعة بن صوحان بالذات فی جملة «الخوارج» الذین نبذ الناس حدیثهم اتهاماً لهم(2) فاقرأ ذلك واعجب ما بدا لك، فإنك ما عشت أراك الدهر عجباً.


____________



(1) لسان المیزان ج3 ص329 عن یعقوب بن شیبة.


(2) أحوال الرجال ص35.













الصفحة 263